فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (88- 94):

قوله تعالى: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ما أوتيه وما سيؤتاه أعظم ما أوتيه مخلوق، اتصل به قوله: {لا تمدن عينيك} أي مدًا عظيمًا بالتمني والاشتهاء المصمم، ولذلك ثنى العين احتزازًا عن حديث النفس {إلى ما متعنا} أي على عظمتنا {به أزواجًا} أي أصنافًا {منهم} أي أهل الدنيا؛ أو يقال: إنه لما كان المقصود لكل ذي لب إنما هو التبليغ بدار الفناء إلى دار البقاء، المؤكد إتيانها في الآية السابقة، وكان القرآن- كما تقدم- كفيلًا بذلك، وسلاه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عما يؤذونه من أقوالهم، وتبين من ذلك علو درجته، توقع السامع ذكر ما أسبغ عليه من النعم فقال تعالى؛ أو يقال: إنه لما أمره سبحانه بالصبر على أذاهم، علل ذلك مما معناه أنهم خلقه، وأنه منفرد بالخلق، وهو بليغ العلم بأفعالهم مريد لها، فليس الفعل في الحقيقة إلا له، وعلى المحب أن يرضى بفعل حبيبه من حيث إنه فعله، ولما كان التقدير: فهو الذي خلقهم، وعلم قبل خلقهم ما يفعلون، عطف عليه تسلية له صلى عليه وعلى آله وسلم قوله: {ولقد آتيناك} أي بما لنا من العظمة كما أتينا صالحًا ما تقدم {سبعًا من المثاني} يكون كل سبع منها كفيلًا بإغلاق باب من أبواب النيران السبعة، وهي أم القرآن الجامعة لجميع معاني القرآن التي أمرنا بإعادتها في كل ركعة، زيادة في حفظها، وتبركًا بلفظها، وتذكيرًا لمعانيها، تخصيصًا لها عن بقية الذكر الذي تكلفنا بحفظه {و} آتيناك {القرآن العظيم} الجامع لجميع معاني الكتب السماوية المتكفلة بخيري الدارين مع زيادات لا تحصى، المشار إلى عظمته أول السورة بالتنوين ووصفه بأنه مبين للبراهين الساطعة على نبوتك، والأدلة القاطعة على رسالتك، الدالة على الله الموصلة إليه، والآية مع ذلك دليل على العلم المختتم به ما قبلها، فكأنه قيل: فماذا أعمل؟ فقيل في معنى {ذرهم يأكلوا}: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم} اكتفاء بهذا البلاغ العظيم الذي من تحلى به وأشربه قلبه أراه معايب هذه الدار فبغضه فيها وأشرف به على ما أمامه {ولا تحزن عليهم} لكونهم لم يؤمنوا فيخلصوا أنفسهم من النار، ويقوى بهم جانب الإسلام، وكأن هذا هو الصفح المأمور به، وهو الإعراض عنهم أصلًا ورأسًا إلا في أمر البلاغ.
ولما أمره في عشرتهم بما أمر، أتبعه أمره بعشرة أصحابه- رضي الله عنهم- م بالرفق واللين فقال تعالى: {واخفض} أي طأطئ {جناحك للمؤمنين} أي العريقين في هذا الوصف، واصبر نفسك معهم، واكتفِ بهم، فإن الله جاعل فيهم البركة، وناصرك ومعز دينك بهم، وغير محوجك إلى غيرهم، فمن أراد شقوته فلا تلتفت إليهم، وهذا كناية عن اللين، وأصله أن الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه ثم قبضه عليه- قاله أبو حيان؛ وفي الجزء العاشر من الثقفيات عن أبي هريرة- رضي الله عنهم- أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «المؤمن لين حتى تخاله من اللين أحمق».
ولما كان الغالب على الخلق التقصير، قال له: {وقل} أي للفريقين، مؤكدًا لما للكفار من التكذيب، ولما للمؤمنين به من طيب النفس: {إني أنا} أي لا غيري من المنذرين بالأعداء الدنيوية {النذير المبين} لمن تعمد التقصير، إنذاري منقذ له من ورطته، لأنه محتف بالأدلة القاطعة.
ولما ذكر ما التحم بقصة أصحاب الحجر المقتسمين على قتل رسولهم، وختمه بالإنذار الذي هم أهله، عاد إلى تتميم أمرهم فشبههم بمن كذب من هذه الأمة فقال: {كما} أي كذب أولئك وآتيناهم آياتنا فأعرضوا عنها ففعلنا بهم من العذاب ما هم أهله مثل ما {أنزلنا} أي بعظمتنا من الآيات {على المقتسمين} أي مثلهم من قريش حيث اقتسموا شعاب مكة، ينفرون الناس عنك ويفرقون القول في القرآن، فلا تأس عليهم لتكذيبهم وعنادهم مع رؤيتهم الآيات البينات، فإن سنتنا جرت بذلك فيمن أردنا شقوته كقوم صالح؛ ثم قال: {الذين} أي مع أنهم تقاسموا على قتلك واقتسموا طرق مكة للتنفير عنك {جعلوا القرءان} بأقوالهم {عضين} أي قسموا القول فيه والحال أنه جامع المعاني، لا متفرق المباني- منتظم التأليف أشد انتظام.
متلائم الارتباط أحكم التئام، كما قدمنا الإشارة إليه بتسميته كتابًا وقرآنًا، وختمنا بأن ذلك على وجه الإبانة لاخفاء فيه، فقولهم كله عناه، فقالوا: سحر، وقالوا: شعر، وقالوا: كهانة، وقالوا: أساطير الأولين- وغير ذلك، أنزلنا عليهم آياتنا البينات وأدلتنا الواضحات، فأعرضوا عنها واشتغلوا بما لا ينفعهم من التعنت وغيره دأب أولئك فليرتقبوا مثل ما حل بهم، ومثلهم كل من تكلم في القرآن بمثل ذلك مما لا ينبغي من العرب وغيرهم؛ وروى البخاري عن ابن عباس- رضى الله عنهما- {جعلوا القرآن عضين} قال: هم أهل الكتاب: اليهود والنصارى، جزؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
وسيأتي معنى هذه اللفظة {فوربك} أي فتسبب عن فعلهم هذا أنا نقسم بالموجد لك، المدبر لأمرك، المحسن إليك بإرسالك {لنسئلنهم أجمعين} أي هؤلاء وأولئك {عما كانوا} أي كونًا هو جبلة لهم {يعملون} أي من تعضية القرآن وغيرها لأنا نسأل كلًا عما صنع {فاصدع} أي اجهر بعلو وشدة، فارقًا بين الحق والباطل بسبب ذلك {بما تؤمر} به من القرآن وكتاب مبين {وأعرض} أي إعراض من لا يبالي {عن المشركين} بالصفح الجميل عن الأذى والاجتهاد في الدعاء، ويؤيد أن قوله: {كما} راجع إلى قصة صالح ومتعلق بها- وإن لم أر من سبقني إليه- ذكرُ الوصف الذي به تناسبت الآيتان وهو الاقتسام، ثم وصف المقتسمين بالذين جعلوا القرآن عضين، لئلا يظن أنهم الذين تقاسموا في بيات صالح، أي أتينا أولئك الآيات المقتضية للإيمان فما كان منهم إلا التكذيب والتقاسم كما أنزلنا على هؤلاء الآيات فما كان منهم إلا ذلك، وإنما عبر في أولئك بـ: {ءاتيناهم} لأن آياتهم الناقة وولدها والبئر، وهي معطاة محسوسة، لا منزلة معقولة، وقال في هؤلاء أنزلنا إشارة إلى القرآن الذين هو أعظم الآيات، أو إلى الجميع وغلب عليها القرآن لأنه أعظمها، وإلى أنهم مبطلون في جحدهم وأنه لا ينبغي لهم أن يتداخلهم نوع شك في أنه منزل لأنه أعظم من تلك الآيات مع كونها محسوسات، وأما اعتراض ما بينهما من الآيات فمن أعظم أفانين البلاغة، فإنه لما أتم قصة صالح عليه السلام، علم أنه المتعنتين ربما قالوا: لأيّ شيء يخلقهم ثم يهلكهم مع علمه بعدم إجابتهم؟ فرد عليهم بأنه ما خلق {السماوات والأرض وما بينهما} من هؤلاء المعاندين ومن أفعالهم وعذابهم وغير ذلك {إلا بالحق وأن الساعة لآتية} فيعلم ذلك كله بالعيان من يشك فيه الآن، وذلك حين يكشف الغطاء عن البصائر والأبصار فاصفح عنهم، فإنه لابد من الأخذ لك بحقك، إن لم يكن في الدنيا ففي يوم الجمع، ثم أكد التصرف بالحكمة بقوله: {إن ربك هو الخلاّق العليم} ثم سلاه- عما يضيّقون به صدره من التكذيب بالساعة، وأن الوعد بها إنما هو سحر، ونحو ذلك من القول، ومن افتخارهم بأموالهم ونسبته إلى الحاجة إلى المشي بالأسواق- بما آتاه من كنوز القرآن، وأمره بأن يزيد في التواضع واللين للمؤمنين لتطيب نفوسهم فلا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا، وأن ينذر الجميع ويحذرهم من سطوات الله أمثال ما أنزل بالأقدمين، ثم عاد إليهم فشبههم بهؤلاء في التكذيب ليعلم أنهم أجدر منهم بالعذاب لأنهم مشبه بهم، والمشبه به أعلى من المشبه، وذلك لكونهم أشد كفرًا لأن نبيهم أعظم وآياته أجل وأكثر، وأجلى وأبهر، فيكون ذلك سبب اشتداد حذرهم، ولك أن تقول ولعله أحسن: إنه تعالى لما ذكر أن ثمود سكنوا الأرض سكنى الآمنين.
فأزعجتهم عنها صيحه سلبت أرواحهم، وقلبت أشباحهم، كما سيكون لأهل الأرض قاطبة بنفخة الصور، عند نفوذ المقدور، وكان قد قدم ذكر كثير مما في السماوات والأرض من الآيات والعبر بقوله تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجًا} وما بعد ذلك من الجن والإنس وغيرهما مما جعل ذكر اختراعه دليلًا على الساعة، أتبع ذلك أن سبب خلق ذلك كله وما حواه من الخافقين إنما هو الساعة فقال: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أي بالأمر الثابت لا بالتمويه والسحر كما أنتم تشاهدون، أو بسبب إقامة الحق وإبانته من الباطل إبانة لا شك فيها يوم الجمع الأكبر، ومن إقامة الحق تنعيم الطائع وتعذيب العاصي، وذلك بعد إتيان الساعة بنفختي الصور {وإن الساعة لآتيه بالحق} أيضًا، وليست سحرًا كما تظنون، ولما كان إتيانها لهذا العرض مما يشفي القلب لإدراك الثأر وهو حق لابد منه، تسبب عنه قوله تعالى: {فاصفح الصفح الجميل}.
ولما كانت النفس بخبر الأعلم أوثق، وكان صانع الشيء أعلم به من غيره فكيف إذا كان مع ذلك تام للعلم قال الله تعالى معللًا لذلك {إن ربك} أي المحسن إليك {وهو الخلاّق} أي التام القدرة على الإيجاد والإعدام، الفعال لذلك {العليم} البالغ العلم؛ ولما ختم بهذين الوصفين بعد تقدم الأخبار عما أوتى أهل الحجر من الآيات، وأنه خلق الوجود بالحق لا بالتمويه، وكان ذلك موجبًا لتوقع الإخبار عما أوتي هذا النبي الكريم منها لإرشاد أمته، وكانت الآيات إما أن تكون من قسم الخلق كآية صالح، أو من قسم الأمر الذي هو مدار العلم، أشار إلى تفضيله- صلى الله عليه وسلم- بفضل ابنه، فقال عاطفًا على ذلك {ولقد ءاتيناك} أي إن كنا أتينا صالحًا أو غيره آية مضت فلم يبق إلا ذكرها فقد آتيناك {سبعًا من المثاني} وهي الفاتحة التي خصصت بها، ثنى فيها البسملة للمبادىء، والحمدلة للكمالات، والرحمانية والرحيمية فيها للإبداع الأول والمرضي من الأعمال، وملك الدنيا المسمى بالربوبية لكونه مستورًا، وملك يوم الدين، وبينهما رحمانية الإيجاد الثاني بالمعاد ورحيمية الثواب للمرضي من الأسباب، والعبادة التي لا تكون إلا مع القدرة والاختيار، والاستعانة الناظرة إلى العجز عن كمال الاقتدار، والهداية بالهادي والمهدي، والضلال في مقابل ذلك بالمضل والضال، وفي ذلك أسرار لا تسعها الأفكار {والقرآن الكريم} الجامع لجميع الآيات مع كونه حقًا ثابتًا لا سحرًا وخيالًا، بل هو آية باقية على وجه الدهر، مستمرًا أمرها، دائمًا تلاوتها وذكرها، تفني الجبال الرواسي وهي باقية، وتزول السماوات والأراضي وهي جديدة، إذا اصطف عسكر الفجرة قالت كل آية منها هل من مبارز؟ وإن رام عدو مطاولة لتحققه بالضعف صاحت لدوام قوتها: إني أناجز فلا تقوم لها قائم، ولا يحوم حول حماها حائم، ولا يروم خوض بحرها رائم.
ولما كانت هذه الآية لصاحبها مغنية، ولمن فاز بقبولها معجبة مرضية، حسن كل الحسن اتباعها بقوله: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم} ولما كان كفرهم بعد بيانها إنما هو عناد، قال تعالى: {ولا تحزن عليهم} ولما كان الغني بها ربما طن حسن أنفة الغنى، عقبه قوله: {واخفض جناحك للمؤمنين} ولما كان ربما ظن أن تلاوتها تغني عن الدعاء لاسيما لمن أعرض، نفى ذلك بقوله: {وقل إني أنا النذير المبين} تحريضًا على الاجتهاد في التحذير، وتثبيتًا للمؤمنين وإرغامًا للمعاندين، واستجلابًا لمن أراد الله إسعاده من الكافرين، إعلامًا بأن القلوب للمؤمنين بيد الله سبحانه وتعالى، فلا وثوق مع ذلك بمقبل، ولا يأمن عن مدبر.
ولما تم ذلك على هذا النظم الرصين، والربط الوثيق المتين، التفت الخاطر إلى حال من يندرهم، وكان كفار قريش- في تقسيمهم القول في القرآن واقتسامهم طرق مكة لإشاعة ذلك البهتان، تنفيرًا لمن أراد الإيمان- أشبه شيء بالمقتسمين على صالح عليه السلام، قال تعالى: {كما} أي آتينا أولئك المقتسمين آياتنا فكانوا عنها معرضين، مثل ما {أنزلنا} آياتنا {على المقتسمين} أي الذين تقاسموا برغبة كبيرة واجتهاد في ذلك {الذين جعلوا القرآن عضين} أي ذا أعضاء أي أجزاء متفاصلة متباينة مثل أعضاء الجزور إذا قطعت، جمع عضة مثل عدة وأصلها عضوة {فوربك لنسئلنهم أجمعين} أي لا يمتنع علينا منهم أحد {عما كانوا يعملون فاصدع} أي بسبب أمرنا لك بالإنذار وإخبارك أنا نسأل كل واحد عما عمل {بما تؤمر وأعرض عن المشركين}.اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم} فاعلم أنه تعالى لما عرف رسوله عظم نعمه عليه فيما يتعلق بالدين، وهو أنه آتاه سبعًا من المثاني والقرآن العظيم، نهاه عن الرغبة في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليها رغبة فيها وفي مد العين أقوال:
القول الأول: كأنه قيل له إنك أوتيت القرآن العظيم فلا تشغل سرك وخاطرك بالإلتفات إلى الدنيا ومنه الحديث: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» وقال أبو بكر: من أوتي القرآن فرأى أن أحدًا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيمًا وعظم صغيرًا، وقيل: وافت من بعض البلاد سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير، فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى فقال الله تعالى لهم: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع.
القول الثاني: قال ابن عباس: {لا تمدن عينيك} أي لا تتمن ما فضلنا به أحدًا من متاع الدنيا، وقرر الواحدي هذا المعنى فقال: إنما يكون مادًا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر ونحوه، وإدامة النظر إلى الشيء تدل على استحسانه وتمنيه، وكان صلى الله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا، وروي أنه نظر إلى نعم بني المصطلق، وقد عبست في أبوالها وأبعارها فتقنع في ثوبه وقرأ هذه الآية وقوله عبست في أبوالها وأبعارها هو أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها إذا تركت من العمل أيام الربيع فتكثر شحومها ولحومها وهي أحسن ما تكون.
والقول الثالث: قال بعضهم: {ولا تمدن عينيك} أي لا تحسدن أحدًا على ما أوتي من الدنيا قال القاضي: هذا بعيد، لأن الحسد من كل أحد قبيح، لأنه إرادة لزوال نعم الغير عنه، وذلك يجري مجرى الاعتراض على الله تعالى والاستقباح لحكمه وقضائه، وذلك من كل أحد قبيح، فكيف يحسن تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم به؟
أما قوله تعالى: {أزواجًا منهم} قال ابن قتيبة أي أصنافًا من الكفار، والزوج في اللغة الصنف ثم قال: {ولا تحزن عليهم} إن لم يؤمنوا فيقوى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون.
والحاصل أن قوله: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم} نهي له عن الالتفات إلى أموالهم وقوله: {ولا تحزن عليهم} نهي له عن الالتفات إليهم وأن يحصل لهم في قلبه قدر ووزن.
ثم قال: {واخفض جناحك للمؤمنين} إلخ. فض: معناه في اللغة نقيض الرفع، ومنه قوله تعالى في صفة القيامة: {خافضة رافعة} [الواقعة: 3]. أى أنها تخفض أهل المعاصي، وترفع أهل الطاعات، فالخفض معناه الوضع، وجناح الإنسان يده.
قال الليث: يدا الإنسان جناحاه، ومنه قوله: {واضمم إليك جناحك من الرهب} [القصص: 32]، وخفض الجناح كناية عن اللين والرفق والتواضع، والمقصود أنه تعالى لما نهاه عن الالتفات إلى أولئك الأغنياء من الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين، ونظيره قوله تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} [المائدة: 54]، وقال في صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29].
{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)}
اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالزهد في الدنيا، وخفض الجناح للمؤمنين، أمره بأن يقول للقوم: {إِنّى أَنَا النذير المبين} فيدخل تحت كونه نذيرًا، كونه مبلغًا لجميع التكاليف، لأن كل ما كان واجبًا ترتب على تركه عقاب وكل ما كان حرامًا ترتب على فعله عقاب فكان الأخبار بحصول هذا العقاب داخلًا تحت لفظ النذير، ويدخل تحته أيضًا كونه شارحًا لمراتب الثواب والعقاب والجنة والنار، ثم أردفه بكونه مبينًا، ومعناه كونه آتيًا في كل ذلك بالبيانات الشافية والبينات الوافية، ثم قال بعده: {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} وفيه بحثان:
البحث الأول: اختلفوا في أن المقتسمين من هم؟ وفيه أقوال:
القول الأول: قال ابن عباس: هم الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرب عددهم من أربعين.
وقال مقاتل بن سليمان: كانوا ستة عشر رجلًا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا عقبات مكة وطرقها يقولون لمن يسلكها لا تغتروا بالخارج منا، والمدعي للنبوة فإنه مجنون، وكانوا ينفرون الناس عنه بأنه ساحر أو كاهن أو شاعر، فأنزل الله تعالى بهم خزيًا فماتوا شر ميتة، والمعنى: أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين.
والقول الثاني: وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات أن المقتسمين هم اليهود والنصارى، واختلفوا في أن الله تعالى لم سماهم مقتسمين؟ فقيل لأنهم جعلوا القرآن عضين آمنوا بما وافق التوراة وكفروا بالباقي.
وقال عكرمة: لأنهم اقتسموا القرآن استهزاء به، فقال بعضهم: سورة كذا لي.
وقال بعضهم: سورة كذا لي.
وقال مقاتل بن حبان: اقتسموا القرآن فقال بعضهم سحر.
وقال بعضهم شعر، وقال بعضهم كذب، وقال بعضهم: أساطير الأولين.
والقول الثالث: في تفسير المقتسمين.
قال ابن زيد: هم قوم صالح تقاسموا لنبيتنه وأهله، فرمتهم الملائكة بالحجارة حتى قتلوهم، فعلى هذا والاقتسام من القسم لا من القسمة، وهو اختيار ابن قتيبة.
البحث الثالث: أن قوله: {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} يقتضي تشبيه شيء بذلك فما ذلك الشيء؟
والجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: التقدير: ولقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم كما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين، حيث قالوا بعنادهم وجهلهم بعضه حق موافق للتوارة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما فاقتسموه إلى حق وباطل.
فإن قيل: فعلى هذا القول كيف توسط بين المشبه والمشبه به قوله: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [الحجر: 88]. إلى آخره؟
قلنا: لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم، اعترض بما هو مدار لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم.
والوجه الثاني: أن يتعلق هذا الكلام بقوله: {وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين}.